فصل: الهجرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الهجرة

ولما علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأنصار من غيرهم وأنه مجمع على اللحاق بهم وأن أصحابه من المهاجرين سبقوه إليهم تشاوروا ما يصنعون في أمره‏.‏ واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة‏:‏ عتبة وشيبة وأبو سفيان من بني أمية طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر من بني نوفل والنضر بن الحارث من بني عبد الدار وأبو جهل من بني مخزوم ونبيه ومنبه ابنا الحجاج من بني سهم أمية بن خلف من بني جمح ومعهم من لا يعد من قريش فتشاوروا في حبسة وإخراجه عنهم‏.‏ ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شاباً جلدأ فيقتلونه جميعاً فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم‏.‏ واستعدوا لذلك من ليلتهم وجاء الوحي بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما رأى أرصدهم على باب منزله أمر علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه ويتوشح ببرده‏.‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فطمس الله تعالى على أبصارهم ووضع على رؤوسهم تراباً وأقاموا طول ليلهم‏.‏ فلما أصبحوا خرج إليهم علي فعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نجا وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق واستأجر عبد الله بن أريقط الدولي من بني بكر بن عبد مناف ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن طريق العظمى وكان كافرا وحليفاً للعاص بن وائل وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر ليلاً وأتيا الغار الذي في جبل ثور بأسفل مكة فدخلا فيه‏.‏ وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وراعي غنمه يريح غنمه عليهما ليلاً فيأخذا حاجتهما من لبنها واسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام‏.‏ ونقض عامر بالغنم إثر عبد الله ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال‏:‏ هنا انقطع الأثر وإذا بنسج العنكبوت على فم الغار فاطمأنوا إلى ذلك ورجعوا وجعلوا مائة ناقة لمن ردهما عليهم‏.‏ ثم أتاهما عبد الله بن أريقط بعد ثلاث براحلتيهما فركبا‏.‏ وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة واتتهما أسماء بسفرة لهما وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت ذات النطاقين‏.‏ وحمل أبو بكر جميع ماله نحو ستة آلاف درهم ومروا بسراقة بن مالك بن جعشم فاتبعهم ليردهم‏.‏ ولما رأوه دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض فنادى بالأمان وأن يقفوا له‏.‏ فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابأ فكتبه أبو بكر بأمره وسلك الدليل من أسفل مكة على الساحل أسفل من عسفان وأمج وأجاز قديدأ إلى العرج ثم إلى قبا من عوالي المدينة‏.‏ ووردوها قريباً من الزوال يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول وخرج الأنصار يتلقونه وقد كانوا ونزل عليه السلام بقبا على سعد بن خيثمة وقيل على كلثوم الهدم‏.‏ ونزل أبو بكر بالسخ في بني الحرث بن خزرج على حبيب بن أسد وقيل على خارجة بن زيد‏.‏ ولحق بهم علي رضي الله عنه من مكة بعد أن رد الودائع للناس التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزل معه بقبا‏.‏ وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك أياما ثم نهض لما أمر الله وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد هنالك‏.‏ ورغب إليه رجال بني سليم أن يقيم عندهم وتبادروا إلى خطام ناقته اغتناماً لبركته‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ خلوا سبيلها فإنها مأمورة‏.‏ ثم مشى والأنصار حواليه إلى أن مر بدار بني بياضة فتبادر إليه رجالهم يبتدرون خطام الناقة‏.‏ فقال‏:‏ دعوها فإنها مأمورة‏.‏ ثم مر بدار بني ساعدة فتلقاه رجال وفيهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ودعوه كذلك وقال لهم مثل ما قال للآخرين‏.‏ ثم إلى دار بني حارثة بن الخزرج فتلقاه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة‏.‏ ثم مر ببني عدي بن النجار أخوال عبد المطلب ففعلوا وقال لهم مثل ذلك‏.‏ إلى أن أتى دار بني مالك بن النجار فبركت ناقته على باب مسجده اليوم وهو يومئذ لغلامين منهم في حجر معاذ بن عفراء اسمهما سهل وسهيل وفيه خرب ونخل وقبور للمشركين ومربد‏.‏ ولما بركت الناقة بقي على ظهرها ولم ينزل فقامت ومشت غير بعيد ولم يثنها‏.‏ ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مكانها الأول فبركت واستقرت ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها‏.‏ وحمل أبو أيوب رحله إلى داره فنزل عليه وسأل عن المربد وأراد أن يتخذه مسجدا فاشتراه من بني النجار بعد أن وهبوه له فأبى من قبوله‏.‏ ثم أمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطعت وبنى المسجد باللبن وجعل عضادتيه الحجارة وسواريه جذوع النخل وسقفه الجريد وعمل فيه المسلمون حسبة لله عز وجل‏.‏ ثم وادع اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة شرط فيه لهم وعليهم‏.‏ ثم مات أسعد بن زرارة وكان نقيباً لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه‏.‏ فقال أنا نقيبكم ولم يخص بها منهم أحد دون أحد فكانت من مناقبهم‏.‏ ولما رجع عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكانه فخرج ومعه عائشة أخته وأمهما أم رومان ومعهم طلحة بن عبيد الله فقدموا المدينة وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر وبنى بها في منزل أبي بكر بالسنح‏.‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع إلى نباتة وزوجته سودة بنت زمعة فحملهما إليه من مكة‏.‏ وبلغ الخبر بموت أبي أحيحة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل من مشيخة قريش‏.‏ ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة ومعاذ بن جبل وبين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد وبين عمر بن الخطاب وعثمان بن مالك من بني سهم وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وفش وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخي حسان وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر بن وقش من بني عبد الأشهل‏.‏ وبين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان العنسي حليف بني عبد الأشهل وقيل بل ثابت بن قيس بن الشماس وبين أبي ذر الغفاري والمنذر بن عمرو من بني ساعدة وبين حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء وعمير بن بلتعة من بني الحرث بن الخزرج و‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ وبين بلال بن حمامة وأبي رويحة الخثعمي‏.‏ ثم فرضت الزكاة ويقال وزيد في صلاة الحاضر ركعتين فصارت أربعاً بعد أن كانت ركعتين سفراً وحضراً‏.‏ ثم أسلم عبد الله بن سلام وكفر جمهور اليهود وظهر قوم من الأوس والخزرج منافقون يظهرون الإسلام مراعاة لقومهم من الأنصار ويصرون الكفر‏.‏ وكان رئيسهم‏:‏ من الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومن الأوس الحرث بن سهيل بن الصامت وعباد بن حنيف ومربع بن قيظي وأخوه أوس من أهل مسجد الضرار‏.‏ وكان قرم من اليهود أيضأ تعوذوا بالإسلام وهم يبطنون الكفر منهم‏:‏ سعد بن خنيس وزيد بن اللطيت ورافع بن خزيمة ورفاعة بن زيد بن التابوت وكنانة ن حيورتا‏.‏ الغزوات غزوة الابواء ولما كان شهر صفر بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة خرج في مائتين من أصحابه يريد قريشاً وبني ضمرة واستعمل على المدينة سعد بن عبادة فبلغ ودان والابواء ولم يلقهم‏.‏ واعترضه مخشي بن عمرو سيد بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة وسأله موادعة قومه فعقد له ورجع إلى المدينة ولم يلق حرباً‏.‏ وهي أول غزاة غزاها بنفسه وتسمى بالابواء وبودان المكانان اللذان انتهى إليهما وهما متقاربان بنحو ستة أميال‏.‏ وكان صاحب اللواء فيها حمزة بن عبد المطلب‏.‏ ثم بلغه أن عيراً لقريش نحو ألفين وخمسمائة فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش ذاهبة إلى مكة فخرج في ربيع الآخر لاعتراضها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون‏.‏ وقال الطبري‏:‏ سعد بن معاذ فانتهى إلى بواط ولم يلقهم ورجع إلى المدينة‏.‏ غزوة العشيرة ثم خرج في جمادى الأولى غازيأ قريشاً واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد فسلك عن جانب من الطريق إلى أن لقي الطريق بصخيرات اليمام إلى العشيرة من بطن ينبع فأقام هنالك بقية جمادى الأولى وليلة من جمادى الثانية ووادع بني مدلج‏.‏ ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربأ‏.‏ غزوة بدر الأولى وأقام بعد العشيرة نحو عشر ليال ثم أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فخرج في طلبه حتى بلغ ناحية بدر وفاته كرز فرجع إلى المدينة‏.‏ البعوث وفي هذه الغزوات كلها غزا بنفسه وبعث فيما بينها بعوثاً نذكرها وفيها‏:‏ بعث حمزة بن عبد المطلب بعد الابواء بعثه في ثلاثين راكباً من المهاجرين إلى سيف البحر فلقي أبا جهل في ثلثمائة ومنها بعث عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب في ستين راكبأ وثمانين من المهاجرين فبلغ ثنية المرار ولقي بها جمعاً عظيماً من قريش كان عليهم عكرمة بن أبجهل وقيل مكرز بن حفص بن الأحنف ولم يكن بينهم قتال‏.‏ وكان مع الكفار يومئذ من المسلمين المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان خرجا مع الكفار ليجدا السبيل إلى اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم فهربا إلى المسلمين وجاءا معهم‏.‏ وكان بعث حمزة وعبيدة متقاربين واختلف أيهما كان قبل إلا أنهما أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ ان بعث حمزة كان قبل ودان في شوال لسبعة أشهر من الهجرة ومنها بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين لطلب كرز بن جابر حين أغار على سرح المدينة فبلغ المرار ورجع‏.‏ ومنها بعث عبد الله بن جحش إثر مرجعه من يبدر الأولى في شهر رجب بعثه بثمانية من المهاجرين وهم‏:‏ أبو حذيفة بن عتبة وعكاشة بن محصن بن أسد بن خزيمة وعتبة بن غزوان بن مازن بن منصور وسعد بن أبي وقاص وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي ووافد بن عبد الله بن زيد مناة بن تميم وخالد بن البكير بن سعد بن ليث وسهيل بن مضاض بن فهر بن مالك‏.‏ وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير بومين ولا يكره أحداً من أصحابه فلما قرأ الكتاب بعد يومين وجد فيه أن تمضي حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف وترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم‏.‏ فأخبر أصحابه وقال‏:‏ حتى ننزل نخلة بين مكة والطائف ومن أحب الشهادة فلينهض ولا أستكره أحداً‏.‏ فمضوا كلهم وأضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان في بعض الطريق بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه ونفر الباقون إلى نخلة‏.‏ فمرت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولاهم وذلك آخر يوم من رجب‏.‏ فتشاور المسلمون وتجرح بعضهم الشهر الحرام ثم اتفقوا واغتنموا الفرصة فيهم‏.‏ ‏.‏ فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت نوفل وقدموا بالعير والأسيرين وقد أخرجوا الخمس فعزلوه‏.‏ فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم ذلك في الشهر الحرام فسقط في أيديهم ثم أنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏"‏ الآية إلى قوله ‏"‏ حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعو ‏"‏ فسري عنهم وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الخمس وقسم الغنيمة وحكي‏:‏ وقبل الفداء في الأسيرين وردهم الحكم بن كيسان منهما‏.‏ ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة‏.‏ وهذه أول غنيمة غنمت في الإسلام وأول غنيمة خمست في الإسلام‏.‏ وقتل عمرو بن الحضرمي هو الذي هاج وقعة بدر الثانية‏.‏ ثم صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة‏.‏ خطب بذلك على المنبر وسمعه بعض الأنصار فقام فصلى ركعتين إلى الكعبة قاله ابن حزم‏.‏ وقيل على رأس ثمانية عشر شهراً وقيل ستة عشر ولم يقل غير ذلك‏.‏ غزوة بدر الثانية العظمى والكبرى فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى رمضان في السنة الثانية ثم بلغه أن عيراً لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة معها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش عميدهم أبو سفيان ومعه عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل فندب عليه السلام المسلمين إلى هذه العير وأمر من كان ظهره حاضراً بالخروج‏.‏ ولم يحتفل في الحشد لأنه لم يظن قتالاً واتصل خروجه بأبي سفيان فاستأجر ضمضم بن عمار الغفاري وبعثه إلى أهل مكة يستنصرهم لعيرهم فنفروا وأرعبوا إلا يسيرأ منهم‏:‏ أبو لهب‏.‏ وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان واستخلف على الصلاة عمرو بن أم مكتوم ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة‏.‏ ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ودفع إلى علي راية وإلى رجل من الأنصار أخرى‏.‏ يقال كانتا سوداوين‏.‏ وكان مع أصحابه صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعون بعيراً يعتقبونها فقط‏.‏ وجعل على الساقة بقيس بن أبي صعصعة من بني النجار‏.‏ وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ فسلكوا نقب المدينة مع سعد بن معاذ إلى ذي الحليفة ثم انتهوا إلى صخيرات تمام ثم إلى بئر الروحاء‏.‏ ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء‏.‏ وبعث عليه السلام قبلها بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتجسسون أخبار أبي سفيان وغيره‏.‏ ثم تنكب عن الصفراء يميناً وخرج على وادي دقران فبلغة خروج قريش ونفيرهم فاستشار أصحابه‏.‏ فتكلم المهاجرون وأحسنوا وهو يريد ما يقوله الأنصار وفهموا ذلك‏.‏ فتكلم سعد بن معاذ وكان فيما قال‏:‏ لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة الله فسر بذلك وقال‏:‏ سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين‏.‏ ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر وبعث علياً والزبير وسعداً في نفر يلتمسون الخبر فأصابوا غلامين لقريش فأتوا بهما وهو عليه الصلاة والسلام قائم يصلي وقالوا‏:‏ نحن سقاة قريش‏!‏ فكذبوهما كراهيةً في الخبر ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة فجعلوا يضربونهما فيقولان‏:‏ نحن من العير‏.‏ فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم وقال للغلامين‏:‏ أخبراني أين قريش‏.‏ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وإنهم ينحرون يوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ القوم بين التسعمائة والألف‏.‏ وقد كان بسبس وعدي الجهنيان مضيا يتجسسان الأخبار حتى نزلا بدراً وأناخا قرب الماء واستقيا في شن لهما ومجدي بن عمرو سيد جهينة بقربهما‏.‏ فسمع عدي جاريةً من جواري الحي تقول لصاحبتها‏:‏ العير تأتي غداً أو بعد غد فاعمل لهم واقضيك الذي لك‏.‏ وجاءت إلى مجدي بن عمرو فصدقها‏.‏ فرجع بسسس وعدي بالخبر وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر‏.‏ فقال لمجدي هل أحسست أحداً‏.‏ فقال‏:‏ راكبين أناخا فيما يلي هذا التل فاستقيا الماء ونهضا‏.‏ فأتى أبو سفيان مناخهما وفتت من أبعار رواحلهما فقال‏:‏ هذه والله علائف يثرب فرجع سريعاً وقد حفر وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا‏!‏ فقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ونقيم به ثلاثأ وتهابنا العرب أبداً‏.‏ ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة وكان حليفهم ومطاعاً فيهم وقال‏:‏ إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت فرجعوا‏.‏ وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم فلم يشهد بدراً من قريش عدوي ولا زهري‏.‏ وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم وأصاب المسلمين دهس الوادي وأعانهم على السير‏.‏ فنزل عليه السلام على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح‏:‏ آلله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنك أم قصدت الحرب والمكيدة فقال عليه السلام‏:‏ لا بل هو الرأي والحرب‏!‏ فقال يا رسول الله‏:‏ ليس هذا بمنزل وإنما تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضأ فنملؤه ونغور القلب كلها فنكون قد منعناهم الماء‏.‏ فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بنوا له عريشاً يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه من ربه النصر يريهم مصارع القوم واحداً واحداً‏.‏ ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يجذر لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلثماثة وبضعة عشر رجلا فيهم فارسان‏:‏ الزبير والمقداد‏.‏ فجذرهم وانصرف وخبرهم الخبر‏.‏ ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ولا يكون الحرب فأبى أبو جهل وساعده المشركون وتواقفت الفئتان‏.‏ وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر وحده وطفق يدعو ويلح وأبو بكر يقاوله ويقول في دعائه‏:‏ ‏"‏ اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض اللهم أنجز لي ما وعدتني ‏"‏‏.‏ وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه وأخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتبه فقال‏:‏ أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله‏.‏ ثم خرج يحرض الناس ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول‏:‏ شاهت الوجوه‏.‏ ثم تزاحفوا فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز فخرج إليهم عبيدة بن الحرث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب‏.‏ فقتل حمزة وعلي شيبة والوليد وضرب عتبة عبيدة فقطع رجله فمات‏.‏ وجاء حمزة وعلي إلى عتبة فقتلاه‏.‏ وقد كان برز إليهم عوف ومعوذ إبنا عفراء وعبد الله بني رواحة من الأنصار فأبوا إلا قومهم‏.‏ وجال القوم جولة فهزم المشركون وقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً‏.‏ فمن مشاهيرهم‏:‏ عتبة وشيبة إبنا ربيعة والوليد بن عتبة وحنظلة بن سفيان بن حرب وإبنا سعيد بن العاص عبيدة والعاص والحرث بن عامر بن نوفل وإبن عمه طعيمة بن عدي وزمعة بن الأسود وإبنه الحرث وأخوه عقيل بن الأسود وابن عمه أبو البحتري بن هشام ونوفل بن خويلد بن أسد وأبو جهل بن هشام‏.‏ اشترك فيه معاذ ومعوذ إبنا عفراء وجده عبد الله بن مسعود وبه رمق فحز رأسه وأخوة العاص بن هشام وابن عمهما مسعود بن أمية وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وابن عمه أبو قيس بن الفاكه ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والعاص والحراث ابنا منبه وأمية بن خلف وابنه علي وعمير بن عثمان عم طلحة‏.‏ وأسر العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب والسائب بن عبد العزيز من بني المطلب وعمرو بن أبي سفيان بن حرب وأبو العاص بن الربيع وخالد بن أسيد بن أبي العيص وعدي بن الخيار من بني نوفل‏.‏ وعثمان بن عبد شمس ابن عم عتبة بن غزوان وأبو عزيز أخو مصعب بن عمير وخالد بن هشام بن المغيرة وابن عمه رفاعة بن أبي رفاعة وأمية بن أبي خذيفة بن المغيرة والوليد بن الوليد أخو خالد وعبد الله وعمرو ابنا أبي بن خلف وسهيل بن عمرو في آخرين مذكورين في كتب السير‏.‏ واستشهد من المسلمين‏:‏ من المهاجرين‏:‏ عبيدة بن الحارث بن المطلب عمير بن أبي وقاص وذو الشمالين عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة وصفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهر ومهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصابه سهم فقتله‏.‏ وعاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي من الأنصار‏.‏ ثم من الأوس سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر‏.‏ ومن الخزرج يزيد بن الحارث بن الخزرج وعمير بن الحمام بن بني سلمة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على الجهاد ويرغب في الجنة وفي يده ثمرات يأكلهن‏.‏ فقال‏:‏ بخ بخ أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم رمى بهن وقاتل حتى قتل‏.‏ ورافع بن المعلى من بني حبيب بن عبد حارثة وحارثة بن سراقة من بني النجار وعوف ومعوذ ابنا عفراء‏.‏ ثم انجلت قريش الحرب وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فسحبوا إلى القليب وطم عليهم التراب‏.‏ وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن مقدول بن عمر ابن غنم بن مازن بن النجار‏.‏ ثم انصرف إلى المدينة فلما نزل الصفراء قسم الغنائم كما أمرى الله وضرب عنق النضر بن كلدة من بني عبد الدار‏.‏ ثم نزل عرق الظبية فضرب عنق عقبة ابن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية وكان في الاسارى ومر إلى المدينة فدخلها لثمان بقين من رمضان‏.‏ غزوة الكرز وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه إلى المدينة إجتماع غطفان فخرج يريد بني سليم بعد سبع ليال من منصرفه واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم‏.‏ فبلغ ماء يقال له الكرز وأقام عليه ثلاثة أيام ثم انصرف ولم يلق حرباً‏.‏ وقيل أنه أصاب من نعمهم ورجع بالغنيمة وإنه بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية فنالوا منهم وانصرفوا بالغنيمة‏.‏ وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة وفدى رسول صلى الله عليه وسلم في أكثر أسارى بدر‏.‏ غزوة السويق ثم إن أبا سفيان لما انصرف من بدر نذر أن يغزو المدينة فخرج في مائتي راكب حتى أتى بني النضير ليلاً فتوارى عنه حيي بن أخطب ولقيه سلام بن مشكم وقراه وأعلمة بخبر الناس‏.‏ ثم رجع ومر باطراف المدينة فحرق نخلاً وقتل رجلين في حرث لهما‏.‏ فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستعمل على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر وبلغ الكرز وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا سويقا من أزوادهم ليتحففوا فأخذها المسلمون‏.‏ فسميت لذلك غزوة السويق وكانت في ذي الحجة بعد بدر بشهرين‏.‏ ذي أمر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر المحرم غازيا غطفان واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقام بنجد صفر وانصرف ولم يلق حربا‏.‏ نجران‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ربيع الأول يريد قريشاً واستخلف ابن أم مكتوم فبلغ نجران معدناً في الحجاز ولم يلق حرباً‏.‏ وأقام هناك إلى جمادى الثانية من السنة الثالثة وانصرف إلى المدينة‏.‏ قتل كعب بن الاشرف وكان كعب بن الاشرف رجلا من طيء وأمه من يهود بني النضير‏.‏ ولما أصيب أصحاب بدر وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة جعل يقول‏:‏ ويلكم أحق هذا وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس وإن كان محمد أصاب هؤلاء فبطن الأرض خير من ظهرها‏.‏ ثم قدم مكة ونزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وعنده عاتكة بنت أشيد بن أبي العيص بن أمية‏.‏ فجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب‏.‏ ثم رجع إلى المدينة فشبب بعاتكة ثم شبب بنساء المسلمين‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقتل كعب بن الأشرف فانتدب لذلك محمد بن مسلمة وملكان بن سلامة بن وقش وأبو نائلة من بني عبد الأشهل أخو كعب من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش بن بشر بن معاذ وأبو عبس بن جبر من بني حارثة‏.‏ وتقدم إليه ملكان بن سلامة وأظهر له انحرافاً عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أذن منه وشكا إليه ضيق الحال‏.‏ ورام أن يبيعه وأصحابه طعاماً ويرهنون سلاحهم‏.‏ فأجاب إلى ذلك ورجع إلى أصحابه‏.‏ فخرجوا وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الفرقد في ليله قمراء وأتوا كعباً فخرج إليهم من حصنه ومشوا غير بعيد ثم وضعوا عليه سيوفهم‏.‏ ووضع محمد بن مسلمة معولاً كان معه في ثنته فقتله‏.‏ وصاح عدو الله صيحة شديدة انذعر لها أهل الحصون التي حواليه وأوقدوا النيران ونجا القوم وقد جرح منهم الحرث بن أوس ببعض سيوفهم فنزفه الدم وتأخر‏.‏ ثم وافاهم بجرة العريض آخر الليل وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وأخبروه وتفل على جرع الحرث فبرىء‏.‏ وأذن للمسلمين في قتل اليهود لما بلغه أنهم خافوا من هذه الفعلة وأسلم حينئذ حويصة بن مسعود وقد كان أسلم قبله أخوه محيصة بسبب قتل بعضهم‏.‏